قصة التحكيم
وإعادة قراءة التاريخ (37 هـ)
(الراصد)
يعتبر التاريخ مصدراً هاماً من مصادر حفظ كيان الأمم والشعوب, لذلك كانت كتابة التاريخ أمراً ذا حساسية وخطورة بالغتين, لما لكتابة التاريخ من أثر بالغ في تشكيل القليّات وإقناع الناس, وادّعاء الحقوق, وليس اليهود في فلسطين عنّا ببعيد, فقد امتدت أيديهم إلى التاريخ تحريفاً وتزويراً وهم يخرجون لنا النصوص والوثائق التي يحرفونها أو يحرفون مدلولاتها ليقولوا للعالم أن فلسطين أرض يهودية منحها الله لهم.
والتاريخ الإسلامي شأنه شأن تاريخ الأمم والشعوب الأخرى لم يسلم من هذا التحريف والتزوير, الذي أصبح –للأسف- كالحقائق المسلّم بها عند الخاصة والعامة على حدّ سواء, وأصبحت كتب التاريخ والأدب تعج بالأباطيل والأكاذيب, ويقدم هذا كله على أنه "التاريخ الإسلامي".
والمؤرخون والباحثون على أنواع:
الصنف الأول:
لا يسرّه أن يرى راية الإسلام مرتفعة خفّاقة, ويحب أن يشوّه هذا التاريخ المليء بالجهاد والتضحية ونصرة الإسلام, ولا يرى التاريخ إلا مجموعة من الغاضبين للسلطة المعادين لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
الصنف الثّاني:
الذين يخلطون بين الغث والسمين, وينقلون الروايات بلا تمحيص أو تثبيت, وبعضهم يرغب في إشباع موضوعه بغض النظر عن الروايات المنقولة.
الصنف الثالث:
هم الذين يؤمنون بنصاعة تاريخنا الإسلامي وخاصة في عصوره المتقدمة, ويرون عدالة الصحابة, ويتثبتون مما ينقلونه, ويعرضون عن الروايات المكذوبة والمختلفة.
نقول هذا عن التاريخ لنعرج على حدث من أحداث التاريخ الإسلامي في عصوره المتقدمة, وتحديداً زمن الخلافة الراشدة, ألا وهو حادثة التحكيم التي جرت سنة 37هـ في أعقاب حرب صفين التي دارت رحاها بين جيش العراق الذي قاده الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
لقد كانت حادثة التحكيم نموذجاً للتحريف الذي أصاب كتابة التاريخ بحيث تم تصوير الرغبة في حقن دماء المسلمين وإنهاء الحرب بأنها مثال للغدر والخديعة.
ولعل الحديث عن التحكيم يعيدنا للأحداث التي سبقتها خاصة معركة صفين سنة 37هـ حيث انطلق خليفة المسلمين الإمام علي بن أبي طالب من الكوفة في العراق([1]) يريد قتال أهل الشام الذين امتنعوا عن مبايعته, حيث كان معاوية يرى أن تسليمه قتلة عثمان لأنه وليه يجب أن يتم قبل مبايعته لعلي, أما علي فكان يرى أن مبايعة معاوية –وكان آنذاك والياً على الشام- يجب أن تتم أولاّ, ثم ينظر في شأن قتلة عثمان بحسب المصلحة والقدرة.
واندلع القتال بين الطرفين, وقتل من المسلمين عدد كبير, وحلّت بالمسلمين فاجعة سرعان ما دفعت العقلاء والمخلصين من الطرفين للدعوة لوقف هذه الحرب وحقن الدماء, وكانت الرغبة بالصلح رغبة عامة, ورفعت المصاحف على الرماح رغبة في أن يتم التحاكم إلى كتاب الله.
وانتدب الإمام عليّ أبا موسى الأشعري من طرفه حكماً, وانتدب معاوية من طرفه عمرو بن العاص في محاولة منهما لنزع فتيل الأزمة ووقف الحرب.
يقول الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه العواصم من القواصم: "وكان أبو موسى رجلاً تقيّاً ثقفاً فقيهاً عالماً, أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ, وقدّمه عمر وأثنى عليه بالفهم". وكذا كان عمرو بن العاص ذكيّاً فطناً صاحب رأي ومشورة. واتفق الطرفان على إنهاء الحرب, وأن يرجع كلّ منهما إلى بلده, ولم يتطرقا إلى الأمور الشائكة وهي مبايعة معاوية لعليّ, وتسليم علي قتلة عثمان إلى معاوية, وركّزا على التهدئة وترك الأمور التي سببت النزاع جانباً.
وبالرغم مما بذله الحكمان, أبو موسى وعمرو, من جهد لتسوية النزاع, وبالرغم من الأثر الإيجابي للتحكيم, إلا أن فئة من الناس لم يَرُق لها أن يضع المسلمون حدّاً لاقتتالهم, فإن في ذلك خطراً عليهم وعلى مصالحهم, ومن بين هؤلاء الخوارج الذين كفروا المسلمين عامة ومن رضي بهذا التحكيم خاصة, مدّعين أن تحكيم الرجال تعدٍّ على حكم الله وشرعه, وممن رفض هذا الصلح تلك الفئة المثيرة للفتن من أنصار عبد الله بن سبأ الذي تولى كبر فتنة عثمان رضي الله عنه, حيث كان أبرز الذين ألبّوا الناس على عثمان, وبالغوا في عليّ حتّى ألّهوه.
لم يرق لهؤلاء وغيرهم أن تتوقف الحرب بين هاتين الفئتين من المسلمين, فلفّقوا ما استطاعوا تلفيقه, وصوّروا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه بصورة المغفل الساذج مقابل عمرو بن العاص الغادر المخادع, إذ قدّموا لنا رواية عن التحكيم بطلها وراويها هو أبو مخنف لوط بن يحيى, وهو رجل لا يوثق به, مبغض للصحابة, وأعرضوا عما رواه الإمام البخاري, فقد روى أبو مخنف هذا أن عمرو بن العاص اتفق مع أبي موسى الأشعري على عزل علي ومعاوية, فصعد أبو موسى المنبر وقال: أني أنزع عليّاً من الخلافة كما أنزع خاتمي هذا, ثم نزع خاتمه, وقام عمرو وقال: وأنا أنزع عليّاً كذلك كما نزعه أبو موسى كما أنزع خاتمي هذا, وأثبت معاوية كما أثبت خاتمي هذا.
وهذه الرواية لا يعتمد عليها لأسباب:
أولاً:
السند ضعيف فيه أبو مخنف الكذاب.
ثانياً:
خليفة المسلمين لا يعزله أبو موسى ولا غيره, إذ لا يعزل الخليفة عند أهل السنة بهذه السّهولة, والذي وقع في التحكيم هو أنهما اتفقا على أن يبقى علي في الكوفة وهو خليفة المسلمين, وأن يبقى معاوية في الشام أميراً عليها.
ويضيف د. حامد الخليفة في كتابه (الإنصاف) معلّقاً على رواية أبي مخنف:
((فالمغالطة هنا أن معاوية لم يكن يومئذ خليفة, ولم يكن يطالب بالخلافة,
فكيف يخلع عن شيء لا يمتلكه))؟.
ولا يخفى ما تنطوي عليه هذه الروايات من قدح وذمّ في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتهام بعضهم بالغدر والخيانة, وما يخالف هذا امتداح الله ورسوله لهم.
للاستزادة:
1- الإنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدي من الخلاف – الدكتور حامد محمد الخليفة ص533.
2- حقبة من التاريخ – الشيخ عثمان الخميس ص84.
3- العواصم من القواصم – القاضي أبو بكر بن العربي ص117.
====================================
وإعادة قراءة التاريخ (37 هـ)
(الراصد)
يعتبر التاريخ مصدراً هاماً من مصادر حفظ كيان الأمم والشعوب, لذلك كانت كتابة التاريخ أمراً ذا حساسية وخطورة بالغتين, لما لكتابة التاريخ من أثر بالغ في تشكيل القليّات وإقناع الناس, وادّعاء الحقوق, وليس اليهود في فلسطين عنّا ببعيد, فقد امتدت أيديهم إلى التاريخ تحريفاً وتزويراً وهم يخرجون لنا النصوص والوثائق التي يحرفونها أو يحرفون مدلولاتها ليقولوا للعالم أن فلسطين أرض يهودية منحها الله لهم.
والتاريخ الإسلامي شأنه شأن تاريخ الأمم والشعوب الأخرى لم يسلم من هذا التحريف والتزوير, الذي أصبح –للأسف- كالحقائق المسلّم بها عند الخاصة والعامة على حدّ سواء, وأصبحت كتب التاريخ والأدب تعج بالأباطيل والأكاذيب, ويقدم هذا كله على أنه "التاريخ الإسلامي".
والمؤرخون والباحثون على أنواع:
الصنف الأول:
لا يسرّه أن يرى راية الإسلام مرتفعة خفّاقة, ويحب أن يشوّه هذا التاريخ المليء بالجهاد والتضحية ونصرة الإسلام, ولا يرى التاريخ إلا مجموعة من الغاضبين للسلطة المعادين لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
الصنف الثّاني:
الذين يخلطون بين الغث والسمين, وينقلون الروايات بلا تمحيص أو تثبيت, وبعضهم يرغب في إشباع موضوعه بغض النظر عن الروايات المنقولة.
الصنف الثالث:
هم الذين يؤمنون بنصاعة تاريخنا الإسلامي وخاصة في عصوره المتقدمة, ويرون عدالة الصحابة, ويتثبتون مما ينقلونه, ويعرضون عن الروايات المكذوبة والمختلفة.
نقول هذا عن التاريخ لنعرج على حدث من أحداث التاريخ الإسلامي في عصوره المتقدمة, وتحديداً زمن الخلافة الراشدة, ألا وهو حادثة التحكيم التي جرت سنة 37هـ في أعقاب حرب صفين التي دارت رحاها بين جيش العراق الذي قاده الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
لقد كانت حادثة التحكيم نموذجاً للتحريف الذي أصاب كتابة التاريخ بحيث تم تصوير الرغبة في حقن دماء المسلمين وإنهاء الحرب بأنها مثال للغدر والخديعة.
ولعل الحديث عن التحكيم يعيدنا للأحداث التي سبقتها خاصة معركة صفين سنة 37هـ حيث انطلق خليفة المسلمين الإمام علي بن أبي طالب من الكوفة في العراق([1]) يريد قتال أهل الشام الذين امتنعوا عن مبايعته, حيث كان معاوية يرى أن تسليمه قتلة عثمان لأنه وليه يجب أن يتم قبل مبايعته لعلي, أما علي فكان يرى أن مبايعة معاوية –وكان آنذاك والياً على الشام- يجب أن تتم أولاّ, ثم ينظر في شأن قتلة عثمان بحسب المصلحة والقدرة.
واندلع القتال بين الطرفين, وقتل من المسلمين عدد كبير, وحلّت بالمسلمين فاجعة سرعان ما دفعت العقلاء والمخلصين من الطرفين للدعوة لوقف هذه الحرب وحقن الدماء, وكانت الرغبة بالصلح رغبة عامة, ورفعت المصاحف على الرماح رغبة في أن يتم التحاكم إلى كتاب الله.
وانتدب الإمام عليّ أبا موسى الأشعري من طرفه حكماً, وانتدب معاوية من طرفه عمرو بن العاص في محاولة منهما لنزع فتيل الأزمة ووقف الحرب.
يقول الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه العواصم من القواصم: "وكان أبو موسى رجلاً تقيّاً ثقفاً فقيهاً عالماً, أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ, وقدّمه عمر وأثنى عليه بالفهم". وكذا كان عمرو بن العاص ذكيّاً فطناً صاحب رأي ومشورة. واتفق الطرفان على إنهاء الحرب, وأن يرجع كلّ منهما إلى بلده, ولم يتطرقا إلى الأمور الشائكة وهي مبايعة معاوية لعليّ, وتسليم علي قتلة عثمان إلى معاوية, وركّزا على التهدئة وترك الأمور التي سببت النزاع جانباً.
وبالرغم مما بذله الحكمان, أبو موسى وعمرو, من جهد لتسوية النزاع, وبالرغم من الأثر الإيجابي للتحكيم, إلا أن فئة من الناس لم يَرُق لها أن يضع المسلمون حدّاً لاقتتالهم, فإن في ذلك خطراً عليهم وعلى مصالحهم, ومن بين هؤلاء الخوارج الذين كفروا المسلمين عامة ومن رضي بهذا التحكيم خاصة, مدّعين أن تحكيم الرجال تعدٍّ على حكم الله وشرعه, وممن رفض هذا الصلح تلك الفئة المثيرة للفتن من أنصار عبد الله بن سبأ الذي تولى كبر فتنة عثمان رضي الله عنه, حيث كان أبرز الذين ألبّوا الناس على عثمان, وبالغوا في عليّ حتّى ألّهوه.
لم يرق لهؤلاء وغيرهم أن تتوقف الحرب بين هاتين الفئتين من المسلمين, فلفّقوا ما استطاعوا تلفيقه, وصوّروا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه بصورة المغفل الساذج مقابل عمرو بن العاص الغادر المخادع, إذ قدّموا لنا رواية عن التحكيم بطلها وراويها هو أبو مخنف لوط بن يحيى, وهو رجل لا يوثق به, مبغض للصحابة, وأعرضوا عما رواه الإمام البخاري, فقد روى أبو مخنف هذا أن عمرو بن العاص اتفق مع أبي موسى الأشعري على عزل علي ومعاوية, فصعد أبو موسى المنبر وقال: أني أنزع عليّاً من الخلافة كما أنزع خاتمي هذا, ثم نزع خاتمه, وقام عمرو وقال: وأنا أنزع عليّاً كذلك كما نزعه أبو موسى كما أنزع خاتمي هذا, وأثبت معاوية كما أثبت خاتمي هذا.
وهذه الرواية لا يعتمد عليها لأسباب:
أولاً:
السند ضعيف فيه أبو مخنف الكذاب.
ثانياً:
خليفة المسلمين لا يعزله أبو موسى ولا غيره, إذ لا يعزل الخليفة عند أهل السنة بهذه السّهولة, والذي وقع في التحكيم هو أنهما اتفقا على أن يبقى علي في الكوفة وهو خليفة المسلمين, وأن يبقى معاوية في الشام أميراً عليها.
ويضيف د. حامد الخليفة في كتابه (الإنصاف) معلّقاً على رواية أبي مخنف:
((فالمغالطة هنا أن معاوية لم يكن يومئذ خليفة, ولم يكن يطالب بالخلافة,
فكيف يخلع عن شيء لا يمتلكه))؟.
ولا يخفى ما تنطوي عليه هذه الروايات من قدح وذمّ في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتهام بعضهم بالغدر والخيانة, وما يخالف هذا امتداح الله ورسوله لهم.
للاستزادة:
1- الإنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدي من الخلاف – الدكتور حامد محمد الخليفة ص533.
2- حقبة من التاريخ – الشيخ عثمان الخميس ص84.
3- العواصم من القواصم – القاضي أبو بكر بن العربي ص117.
====================================